مقدمة: التصنيع الحيوي في دول مجلس التعاون يدخل عصرًا جديدًا
مع تطور منظومات الرعاية الصحية والتكنولوجيا الحيوية في دول مجلس التعاون الخليجي، يبرز التصنيع الحيوي كأولوية استراتيجية. ويمثّل يوليو 2025 مرحلة مفصلية في هذا التحوّل، حيث بدأت المنطقة في تبنّي تقنيات التصنيع الحيوي المستمر باستخدام أنظمة أحادية الاستخدام، بالاعتماد على منصتي خلايا مبيض الهامستر الصيني (CHO) ونظام تعبير الباكولوفايروس (Baculovirus)، لإنتاج العلاجات البيولوجية على نطاق واسع.
ويمثّل دمج هذين النظامين الإنتاجيين المتقدمين في خط إنتاج مستمر وأحادي الاستخدام نقلة نوعية تجعل من دول الخليج مركزًا تنافسيًا للإنتاج البيولوجي المرن، القابل للتوسع، وذو الجودة العالية. يستعرض هذا المقال تطبيق هذا النموذج التصنيعي من الجيل التالي وآثاره الاستراتيجية على مستقبل المنطقة.
التحوّل نحو التصنيع الحيوي المستمر باستخدام الأنظمة أحادية الاستخدام
لماذا التصنيع الحيوي المستمر؟
رغم موثوقية التصنيع التقليدي القائم على الدُفعات، إلا أنه غالبًا ما يكون مكلفًا، بطيئًا، وغير مرن. أما التصنيع المستمر، فيقدّم مزايا مهمة تشمل:
- إنتاجية أعلى وجودة منتج متسقة
- تقليل الحاجة إلى المساحات والطاقة
- مراقبة وتحكم لحظي في العمليات
- تقليل خطر التلوث عند دمجه مع أنظمة أحادية الاستخدام
ومع التوجه العالمي المتزايد نحو هذا النموذج، تسعى دول الخليج إلى مواءمة ممارساتها مع المعايير الدولية لتجاوز الاختناقات التصنيعية، وتسريع الطرح التجاري، وتوطين إنتاج العلاجات البيولوجية الحيوية.
دور تقنيات الأنظمة أحادية الاستخدام (SUTs)
تساعد المفاعلات الحيوية أحادية الاستخدام، والفلاتر، والأنابيب الجاهزة في التخلص من الحاجة إلى التنظيف والتعقيم المكثف، مما يجعلها مثالية للمرافق متعددة المنتجات. تشمل فوائدها:
- تقليص زمن التبديل بين دورات الإنتاج
- انخفاض تكاليف الاستثمار والتشغيل
- تقليل خطر التلوث المتبادل بين المنتجات
وفي عام 2025، تستثمر الإمارات والسعودية في مرافق غرف نظيفة معيارية مزوّدة بمفاعلات حيوية أحادية الاستخدام تتراوح سعتها بين 40 إلى 2000 لتر، مما يمكّن من تشغيل هجيني مستمر باستخدام أنظمة تعبير متعددة.
استراتيجية المنصتين: خلايا CHO ونظام الباكولوفايروس
خلايا CHO: العمود الفقري لإنتاج البروتينات المعقدة
لا تزال خلايا مبيض الهامستر الصيني المنصة المفضلة لإنتاج الأجسام المضادة وحيدة النسيلة، والبروتينات الاندماجية، والبروتينات السكرية. وفي دول الخليج، يتم تحسين مرافق CHO من أجل:
- نظم تعبير عالية الإنتاجية (>5 جم/لتر)
- مفاعلات حيوية تعتمد تقنية التدفق المستمر (perfusion)
- دمج تقنيات تحليل العمليات (PAT) لمراقبة خصائص الجودة الحرجة (CQAs) لحظيًا
تشمل الشراكات البارزة التعاون بين مركز الملك عبدالله العالمي للأبحاث الطبية (KAIMRC) وشركات تصنيع عالمية (CDMOs) لإنشاء وحدات GMP في الرياض بحلول الربع الرابع من عام 2025.
نظام خلايا الحشرات – الباكولوفايروس (BEVS): سرعة وتنوع وقابلية للتوسع
تُعد منصات الباكولوفايروس – خصوصًا خلايا Sf9 وHigh Five – مثالية للتعبير السريع عن المستضدات الفيروسية، والجسيمات الشبيهة بالفيروسات (VLPs)، ومكونات العلاج الجيني. تتبنى المنشآت الخليجية الآن BEVS من أجل:
- إنتاج علاجات استجابة سريعة للأوبئة (مثل الإنفلونزا، RSV، وسلالات كوفيد)
- تصنيع نواقل معدلة جينيًا
- دعم إنتاج نواقل علاجات CAR-T والعلاجات الخلوية
تُعد كل من مؤسسة سدرة للطب في قطر وشركة G42 Healthcare في الإمارات من الجهات الرائدة في تطوير منشآت BEVS، مكمّلةً لمنشآت CHO، مما يسمح بتشغيل مسارات إنتاج متوازية لتلبية متطلبات السوق المتنوعة.
دراسات حالة لتطبيق النموذج في دول الخليج
الإمارات: مركز إنتاج حيوي متكامل في أبوظبي
في يوليو 2025، أطلقت أبوظبي أول منشأة تصنيع حيوي مستمر متكاملة بالكامل تستخدم تقنيات أحادية الاستخدام، وتجمع بين منصتي CHO وBEVS. وتتميّز المنشأة بـ:
- مفاعلات بتقنية التدفق المستمر لإنتاج الأجسام المضادة باستخدام خلايا CHO
- دورة إنتاج مدتها 30 يومًا للقاحات VLP باستخدام الباكولوفايروس
- إطلاق الجودة اللحظي باستخدام مطيافية رامان وتحليل البيانات المتعدد المتغيرات
تم بناء هذه المنشأة بالتعاون مع شركة تصنيع أوروبية رائدة، وهي مصمّمة للتوسع من طاقة تجريبية إلى تجارية، مما يسرّع طرح الأدوية المشابهة والعلاجات المبتكرة.
السعودية: مبادرة NEOM للتصنيع الحيوي الذكي
تضم مدينة نيوم المستقبلية منطقة مخصصة للابتكار البيوتقني، حيث يتم اختبار أنظمة تحكم مدعومة بالذكاء الاصطناعي للتصنيع الحيوي المستمر. وتشمل الدفعة الأولى من خطوط الإنتاج:
- تصنيع مركّبات جسم مضاد–دواء (ADC) باستخدام خلايا CHO
- إنتاج نواقل جينية مشتقة من الباكولوفايروس لتجارب سريرية داخل الجسم
- نمذجة رقمية مزدوجة كاملة لتحليلات العمليات التنبؤية
تدمج المبادرة أجهزة استشعار متصلة بالإنترنت، وخوارزميات تعلم آلي، وأنظمة تنفيذ تصنيع قائمة على السحابة (MES)، لضمان إنتاج متسق وقابل للتوسع.
الاعتبارات التنظيمية والجودة
إطار موحّد للتصنيع المستمر
يعمل مجلس الصحة الخليجي بالتعاون مع الجهات التنظيمية الوطنية على وضع إطار موحّد يشمل:
- توثيق عمليات التصنيع الحيوي المستمر
- إدارة دورة حياة مكونات الاستخدام الأحادي
- مسارات موافقة تستند إلى المنصات المستخدمة (CHO وBEVS)
وقد بدأت الهيئات التنظيمية في الإمارات والسعودية في إصدار موافقات تجريبية لمنتجات مصنّعة باستخدام أنظمة تشغيل مستمرة، بالاعتماد على نماذج تقييم المخاطر المشابهة لتوصيات FDA وEMA.
التصميم القائم على الجودة (QbD) والإفراج اللحظي عن المنتج (RTR)
تعتمد الشركات المصنعة في المنطقة مبادئ QbD لتحديد نطاق التصميم والمعايير الحرجة في مراحل مبكرة من التطوير. وتسمح اختبارات الإفراج اللحظي (RTRT)، باستخدام مجسّات مدمجة وأدوات آلية، بطرح المنتجات مباشرة بعد الإنتاج، مما يقلل من التأخيرات المرتبطة بدفعات التصنيع.
الآثار الاستراتيجية على دول مجلس التعاون
تعزيز السيادة البيولوجية
يتماشى تطوير خطوط إنتاج مستمرة ثنائية المنصة مع طموح المنطقة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأدوية الحيوية، بما يشمل:
- علاجات الأورام
- أدوية الأمراض النادرة
- لقاحات الطوارئ
ويُسهم هذا التحول في تقليل الاعتماد على الاستيراد، وزيادة الجاهزية الوطنية في مواجهة الجوائح والطوارئ الصحية المستقبلية.
تحفيز الابتكار والتعليم
تستثمر العديد من دول مجلس التعاون في التعليم المتخصص لتلبية احتياجات القوى العاملة المتنامية في قطاع التصنيع الحيوي، عبر:
- برامج جامعية في هندسة العمليات الحيوية
- فرص تدريب صناعي مع شركات تصنيع عالمية
- مراكز تدريب وطنية للتعامل مع أنظمة الاستخدام الأحادي والتحقق منها
وتُعدّ هذه المبادرات ضرورية للحفاظ على نمو البنية التحتية للقطاع الحيوي.
التعاون الإقليمي ونقل التكنولوجيا
لدفع الكفاءة، تعمل دول مجلس التعاون على:
- إنشاء مجمعات إنتاجية مشتركة
- تقديم حوافز لنقل التكنولوجيا
- تأسيس تحالفات إقليمية في التصنيع الحيوي مع شركاء آسيويين وأوروبيين
وتُسهم هذه الشراكات في تقليل ازدواجية البنى التحتية وتسهيل التوافق التنظيمي عبر الحدود.
نظرة مستقبلية: نحو تصنيع حيوي رقمي ومرن
ما المتوقع في 2026 وما بعده؟
من المرجّح أن تشمل التوسعات المستقبلية:
- أنظمة كروماتوغرافيا مستمرة آلية
- تحكم دائري مغلق يعتمد على الذكاء الاصطناعي
- سجلات دفعات رقمية شاملة
وتُهيّئ الاستثمارات الخليجية الاستباقية في البنية التحتية الرقمية، والتنظيم الذكي، والكوادر العلمية، المنطقة لمنافسة المراكز العالمية للتصنيع.
تحديات يجب مراقبتها
- توحيد سلاسل التوريد لمكونات الاستخدام الأحادي
- إدارة المكونات القابلة للتسرب/الاستخلاص في الأنظمة عالية التركيز
- ضمان التوافق التشغيلي بين منصتي CHO وBEVS
الخاتمة
تُرسّخ دول مجلس التعاون الخليجي مكانتها كقوة صاعدة في التصنيع الحيوي من الجيل التالي، من خلال اعتماد أنظمة تشغيل مستمرة وتقنيات أحادية الاستخدام مدمجة مع منصتي خلايا CHO والباكولوفايروس. ويقدّم هذا النموذج الهجين مرونة واستجابة غير مسبوقة، وقابلية عالية للتوسع. ومع ترسيخ الاستراتيجيات الوطنية وتعزيز التعاون الإقليمي، تمضي دول الخليج بثبات نحو تلبية احتياجاتها الذاتية، بل والتحول إلى مصدر عالمي للعلاجات البيولوجية المتقدمة.