لطالما شكّلت التكلفة الباهظة وتعقيد العلاجات الجينية خارج الجسم (ex vivo)، مثل إنتاج خلايا CAR-T، عوائق كبيرة أمام انتشارها الواسع. إلا أن المجال، اعتبارًا من يونيو 2025، يقف على أعتاب تحوّل جذري. إذ تُمهّد الإنجازات الرائدة في هندسة النواقل الفيروسية من نوع Lentivirus الطريق نحو التوصيل المباشر للجينات داخل الجسم (in vivo)، مما يبشّر بجعل هذه العلاجات المنقذة للحياة أكثر إتاحة وكفاءة وبتكلفة أقل. فمن خلال تعديل دقيق لسطح هذه النواقل، أصبح بإمكان العلماء الآن استهداف أنواع محددة من الخلايا داخل الجسم، مما يفتح المجال لتوليد خلايا علاجية، مثل خلايا CAR-T، داخل المريض ذاته.
تُعدّ النواقل الفيروسية من نوع Lentivirus حجر أساس في مجال العلاج الجيني منذ فترة طويلة، وذلك لقدرتها على الاندماج في جينوم الخلايا المنقسمة وغير المنقسمة، وحمل شحنات جينية كبيرة تصل إلى 10 آلاف زوج قاعدي. ويُعد الاستخدام الأكثر بروزًا لها هو في إنتاج خلايا CAR-T خارج الجسم. وتتضمّن هذه العملية عزل خلايا T من المريض، وتعديلها وراثيًا في المختبر باستخدام نواقل Lentivirus لتعبّر عن مستقبل اصطناعي (CAR) يتعرّف على الخلايا السرطانية، ثم توسيع أعداد هذه الخلايا المعدّلة وإعادتها إلى جسم المريض. ورغم النجاح السريري لهذه الطريقة في بعض أنواع السرطان، فإن تعقيدها وتكلفتها الباهظة، إلى جانب الحاجة إلى بروتوكولات تثبيط مناعي قاسية، قد حدّت من تطبيقها على نطاق واسع.
لطالما كان الطموح القائم هو تجاوز هذه العملية المعقّدة خارج الجسم، وتوصيل الجين العلاجي مباشرة إلى الخلايا المستهدفة داخل الجسم. من شأن هذا النهج أن يقلّل التكاليف بشكل كبير، بل وقد يؤدي أيضًا إلى تأثيرات علاجية أكثر استدامة من خلال تعديل الخلايا ضمن بيئتها الفسيولوجية الطبيعية. غير أن العقبة الأساسية لتحقيق ذلك كانت تكمن في تحدّي هندسة النواقل الفيروسية بحيث تُعدي نوع الخلية المرغوب فقط، ما يمنع التأثيرات الجانبية ويضمن الأمان. ويُعدّ التقدّم الجديد في هذه التكنولوجيا خطوة مبشّرة نحو تخطّي التحديات المناعية في مجال العلاج الجيني.
إعادة تشكيل الغلاف الفيروسي: مفتاح التوصيل النوعي
يكمن مفتاح التوصيل النوعي للخلايا في الغلاف الفيروسي، وهو الغشاء الخارجي لناقل Lentivirus الذي يحدد الخلايا التي يمكنه إصابتها. أكثر بروتينات الغلاف استخدامًا هو بروتين الفيروس النطاقي الحويصلي (VSV-G)، الذي يمتاز بكفاءة عالية في إصابة مجموعة واسعة من الخلايا، إلا أنه غير ملائم للتطبيقات النوعية داخل الجسم بسبب افتقاره للخصوصية. وقد ركّزت الإنجازات الحديثة على استبدال هذا الغلاف أو تعديله لإنتاج نواقل “كاذبة التغطية” (pseudotyped) تتمتع بقدرات استهداف مصممة خصيصًا.
واعتبارًا من أوائل عام 2025، حقق الباحثون تقدّمًا ملحوظًا في هذا المجال. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات الواعدة في استخدام أغلفة فيروسية متغايرة المصدر (heterologous) مأخوذة من فيروسات تستهدف خلايا معينة بطبيعتها. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام أغلفة فيروس الحصبة، بعد هندستها لعرض أجسام مضادة أو شظايا منها (scFvs)، لتوجيه العدوى نحو خلايا مناعية محددة.
ومن أبرز التطورات في هذا السياق، دراسة نُشرت في منصة bioRxiv في أبريل 2025، توصّف استخدام بروتينات غلاف كيميرية من فيروس “موربيليفيروس الدولفين” (DMV). وقد أظهرت النواقل الفيروسية المعدّلة والمغطاة بغلاف DMV قدرة انتقائية على إصابة خلايا T البشرية، مع تجنّب المناعة الموجودة مسبقًا ضد فيروس الحصبة، وهو أمر بالغ الأهمية لشريحة واسعة من السكان. ويُبرز هذا العمل الإمكانات الكبيرة الكامنة في استكشاف التنوع الفيروسي الطبيعي لتحديد أفضل الأغلفة لاستخدامها في تطوير النواقل العلاجية.
صعود توليد خلايا CAR-T داخل الجسم
إنّ التطبيق الأكثر إثارة لهذه التكنولوجيا القائمة على النواقل الفيروسية النوعية يتمثّل في توليد خلايا CAR-T داخل الجسم. بدلاً من العملية المعقدة خارج الجسم، سيتم إعطاء ناقل مصمّم خصيصًا للمريض، ليقوم بالبحث عن خلايا T وتوصيل الجين المشفّر لمستقبل CAR إليها مباشرة.
وقد شهد عام 2024 نشر دراسة محورية، تم تحديث بياناتها خلال 2025، تعرض منصة “VivoVec”. ويُعدّ هذا النظام الفيروسي المبتكر ناقلًا مغطى بنسخة معدّلة من بروتين غلاف فيروس الكوكال، ويعرض على سطحه شظية من جسم مضاد مضاد لـ CD3، مما يتيح له الارتباط النوعي بخلايا T وتنشيطها، ومن ثم توصيل الجين العلاجي بفعالية. في نماذج الرئيسيات غير البشرية، أدّت هذه النواقل إلى إنتاج قوي ومستدام لخلايا CAR-T المضادة لـ CD20، والتي نجحت في القضاء على خلايا B، الهدف الرئيسي في العديد من الأورام الخبيثة لخلايا B. وقد مهدت هذه النتائج ما قبل السريرية المثيرة الطريق أمام التجارب السريرية على البشر.
وفي خطوة إضافية لتطوير هذه المنهجية، أفادت مجموعة بحثية أخرى في مارس 2025 عن اكتشاف بروتينات G جديدة من خلال تحليل بياني واسع النطاق، يمكن استخدامها كبدائل لبروتين VSV-G. وقد أظهر أحد هذه البروتينات كفاءة ونوعية أفضل في إصابة خلايا T ضمن النماذج ما قبل السريرية، وأدى إلى إزالة كاملة للأورام، مما يعكس توجّهًا نحو تصميم نواقل فيروسية قائم على البيانات والتحليل العلمي المدروس.
تجاوز العوائق المناعية
يشكّل الجهاز المناعي للمضيف تحدّيًا رئيسيًا للعلاج الجيني داخل الجسم، إذ إنه مُهيّأ للتعرّف على الكائنات الغريبة، مثل النواقل الفيروسية، والتخلص منها. وتحتوي الأجيال الحديثة من النواقل الفيروسية المعدّلة على استراتيجيات لتفادي هذه الرقابة المناعية، مثل استخدام بروتينات فيروسية أقل تسبّبًا في الاستجابة المناعية (كالتي يُوفّرها فيروس DMV)، واعتماد تقنيات “التخفي” التي تخفي الناقل عن الجهاز المناعي. ومع ذلك، لا تزال هذه الاستراتيجيات غير مضمونة بالكامل، ويبقى هناك احتمال دائم لحدوث استجابة مناعية. لكن عبر تقليل هذه الاستجابة، يمكن للنواقل البقاء لفترة أطول في الدورة الدموية، مما يزيد فرصتها للوصول إلى الخلايا المستهدفة وتحقيق تأثير علاجي طويل الأمد.
الطريق إلى الأمام: نحو علاجات ميسورة ومتاحة
يُعدّ التقدم في تقنية “التغطية الكاذبة” للنواقل الفيروسية بغرض التوصيل النوعي للجينات داخل الجسم نقطة تحوّل فارقة في الطب. إذ إن القدرة على توليد خلايا علاجية داخل جسم المريض قد تُحوّل العلاجات المعقّدة والمكلفة إلى علاجات أكثر بساطة وجاهزية. إلا أن هذا التطوّر يثير أيضًا تساؤلات أخلاقية هامة حول إمكانية إساءة استخدام التكنولوجيا، وضرورة ضمان العدالة في إتاحة هذه العلاجات. ورغم استمرار التحديات المرتبطة بتوسيع إنتاج هذه النواقل المتطورة وضمان أمانها وفعاليتها على المدى الطويل لدى البشر، فإن الزخم في هذا المجال لا يمكن إنكاره.
وحتى يونيو 2025، ينتظر المجتمع العلمي بفارغ الصبر نتائج أولى التجارب السريرية على البشر في مجال توليد خلايا CAR-T داخل الجسم. وستشكّل هذه النتائج، إن كُتب لها النجاح، ليس فقط إثباتًا لهذا النهج المبتكر، بل وبداية لعصر جديد من العلاج الجيني – عصر تصبح فيه العلاجات المنقذة للحياة متاحة للجميع، لا حكرًا على القلة. إن الرقصة المعقدة بين علم الفيروسات والمناعة والهندسة الجينية بدأت أخيرًا تعزف سيمفونية أمل لمرضى العالم أجمع.